نُقدم لكم ثقافة الموت في اليابان وما يتعلق به من معتقدات منذ قديم الزمان حتى يومنا هذا !

0

جميعنا تعلمنا عن ظاهرة الموت وعن الآخرة وعن الجنة والنار في دين الإسلام، ولكن لطالما كان الموت ظاهرة غامضة في العديد من الدول والأديان منذ قديم الزمان، حيث كانت جميع الثقافات تحاول فهمه وتقبله، وكانت تحاول البحث عن الكثير من الإجابات مثل، أين سيذهب الإنسان عندما يموت؟ وماذا سيحدث بعد الموت؟ وهل يمكن للميت أن يراقبنا ويسمعنا من العالم الآخر؟

 

فعلى مر التاريخ أنشأت كل ثقافة سلسلة من الطقوس الجماعية لممارستها عند موت الإنسان، وذلك من أجل التغلب على الألم والخسارة ومواساة أهل الميت والخ. وفي هذه المقالة سنتحدث عن موضوع الموت في اليابان، والذي له ثقافة وأفكار أخرى عميقة تطورت وتجذرت منذ قديم الزمان، حيث تتمتع الثقافة اليابانية بخلفيتها الروحية المذهلة التي تجيب على كل هذه الأسئلة.

 

الموت في اليابان: معناه

تتعايش ديانات الشنتو والبوذية في وئام في اليابان ولكلاهما العديد من الجوانب المشتركة مثل أهمية أرواح الكائنات الحية، ولهذا السبب عندما يموت الناس في اليابان فإنه لا يزال مهم ويتم احترامه وتذكره وزيارته بين الحين والآخر.

 

وفي ديانة الشنتو هناك اعتقاد بأن جميع الناس يوجد في داخلها “كامي” بمعنى “روح سماوية” ضعيفة ومرتبطة داخل جسم الإنسان، وعند الموت تستعيد هذه الروح قوتها وتخرج من جسم الميت، فتتفاعل بطرق مختلفة مع عالم الأحياء. ولكن على عكس البلدان الأخرى، تحتاج هذه الروح إلى شخص يعتني بها ويغطي احتياجاتها الأساسية “للبقاء”: مثل الشرب، والأكل، والترفيه.

 

ومع ذلك قبل موت الإنسان هناك رحلة طويلة وشاقة يعيشها بجسده، فالموت هو لحظة انتقالية مهمة شبيهة بالولادة ولذلك يجب على الشخص الذي يموت وعائلته اتباع الطقوس الصحيحة حتى لا يفشل في مهمة “الولادة من جديد”.

 

حيث يُعتقد أنه على الإنسان أن يموت بسلام ويترك العالم الدنيوي في أنقى طريقة ممكنة، قد يكون هذا المفهوم متشابه مع ديانات أخرى إلا أن المفهوم الياباني يبدو أكثر تعقيداً وصعوبة، حيث لا يمكن أن يترك الإنسان شيء سيء وراءه صغير، ولا ضغينة، ولا حتى أدنى شك، حيث قد يتسبب التفكير السلبي البسيط قبل الموت في مشاكل لرحلة الروح إلى العالم الآخر.

 

 

كما ذكرتُ في الأعلى، روح المتوفى في اليابان تحتاج إلى مساعدة كبيرة من الأحياء، ولكن لماذا يكلفون أنفسهم بهذه المساعدة مثل القيام بطقوس ومهرجانات باستمرار طوال حياتهم من أجل شخص مات بالفعل؟ يمكننا العثور على هذه الإجابة من خلال التعمق في الدين الأخلاقي (جيمو) الذي يدين به الطفل لوالديه.

 

جيمو: الديون الأخلاقية التي على الإنسان سدها

يُقدم الوالدان الحياة للطفل عند ولادته، ويُقصد هنا بالحياة بما ذلك الحب والحنان والمأوى والاهتمام وما إلى ذلك، فالحياة هي أثمن شيء لدى الإنسان، ولذلك يصبح لدى الطفل دين دائم ومستحيل أن يتركه لأنه مرتبط به ويُسمى باللغة اليابانية جيمو (義務) أي الواجب تجاه الوالدين.

 

تنتقل هذه الديون الأخلاق من جيل إلى جيل، ويمكن للطفل أن يرد هذا الجميل فقط عندما يتوفى والديه، ولكن كيف؟ ذلك من خلال مساعدة أرواحهم على المرور بسلام إلى العالم الآخر بأداء طقوس معينة بشكل صحيح خلال الجنازة. بعد ذلك يستمر الابن في تقديم الطعام والشراب والأزهار وما إلى ذلك من حين لآخر حتى يحظوا بخلود جميل ومشرف في العالم الآخر.

 

وإذا قام الشخص بتنفيذ كل هذه الالتزامات، فسوف يحصل على مكافأة: وهي أن روح جيدة من أسلافه تُدعى “سوري” سوف تحميه من الشر. ولكن إذا لم ينفذ الالتزامات جيداً، فيمكن أن يتحول أسلافه إلى أسوأ كابوس له: حيث أن روح “يوري” هي روح معذبة لم تحصل على الاهتمام اللازم في الطقوس أثناء وفاة أحد الوالدين، وهذه الروح ستزوره وتزعجه.

 

وجميع هذه الأسباب ستساعدكم على فهم مناسبة “أوبون” وفعالياتها في اليابان المخصصة للموتى والتي شرحتُ عنها مسبقاً، إذ تُعد من أشهر الأحداث الصيفية، وتُعتبر إجازة رسمية ففي هذا اليوم يرجع اليابانيين إلى منازل عائلاتهم ويجتمعون مع الأقارب، ويقومون بزيارة أسلافهم ويقدمون لهم الطعام حيث يُعتقد أن في هذا اليوم تزور أرواح الأسلاف الأرض.

 

أحد أنشطة مناسبة أوبون “فوانيس ورقية مكتوب عليها رسائل للأسلاف والأحباء الموتى”

 

كما نرى إن المزيج بين الأخلاق الاجتماعية اليابانية والاعتقادات الدينية يجعل اليابانيين يخافون ويحبون أسلافهم في آنٍ واحد. هذا هو السبب في أن معظم المنازل اليابانية حتى وقتنا الحاضر لديهم مكان صغير مخصص للمتوفين، يوجد به صورهم أو أي شيء يتعلق بهم ويقدمون فيه الطعام والازهار لهم خاصةً في المناسبات، ودائماً يتذكرون محاسنهم ولا ينسونهم وذلك من أجل الوفاء بالدين الأخلاقي ومن أجل الحماية من كل الشرور.

 

فتاة تسقي قبر بالماء

 

الجنة والجحيم في الثقافة اليابانية

“الشنتو” وهي الديانة الأصلية في اليابان، وفيها يؤمنون بمفهوم “كونو يو” ويعني “هذا العالم” ومفهوم “أنو يو” ويعني “العالم الآخر أو ما بعد الموت” ومن منظور ديانة الشنتو فإن هذان العالمان يرتبطان ببعضهما البعض ارتباطاً وثيقاً، وعلى الرغم من صعوبة الوصول إلى العالم الآخر، إلا أنه من الأسهل التنقل بين هذان العالمان بمجرد الوصول إلى العالم الآخر ما بعد الموت. ولذلك نجد قصص الأشباح متجذرة في اليابان ويعتقدون أن وجود شبح هو أمر طبيعي.

 

 ولكن هذه الأرواح قبل أن تصل إلى عالم “أنو يو” سوف تمر عبر “يومي نو كوني” وهو نوع من الجحيم حيث تذهب أرواح الموتى إليه عندما يموتون. ويُقال إن مدخل هذا المكان يقع فعلياً في “يوموتسو هيراساكا” في هيغاشي إيزومو تشيو، مدينة “ماتسويه” محافظة “شيماني”.

 

ضريح إيزومو تايشا في محافظة شيماني

 

في الواقع عندما وصلت البوذية إلى اليابان حدثت تغيرات في عالم الموتى وثقافته. كان أحدها وأهمها هو تقليد حرق جثث الموتى، وعلى مر السنين ظهرت مفاهيم جديدة حول الحياة ما بعد الموت مثل “جودو” ويعني “أرض الغرب الصافية” وهي نوع من الجنة يرأسها “بوذا أميدا”.

 

وقد ظهر أيضاً مفهوم الجحيم والمعروف باسم “جيغوكو” هذا الجحيم الياباني فريد من نوعه: ولا يمكننا معرفة عدد الجحيم فربما يوجد الكثير! حيث يُعتقد أن هناك عقوبة مختلفة في كل واحد منهم تتعلق بـ”النار والجليد”.

 

إذا كنتم مهتمين بمعرفة مواقع الجحيم اليابانية، فهناك العديد من المواقع التي تم التعرف عليها كبوابات للجحيم. وهي موزعة في موقع الينابيع الساخنة في محافظة أويتا، وموقع “نوبوريبيتسو” في محافظة “هوكايدو”، وموقع “جبل تاتي” في محافظة “توياما”، وموقع جبل “أوسوري” في محافظة “أوموري”.

 

وقد تسألون أنفسكم عن سبب وجود العديد من المواقع المحتملة لتكون بوابة جحيم في اليابان، بكل بساطة لنفكر في جغرافية اليابان قليلاً، فنجد أنها ممتلئة بالبراكين والينابيع الساخنة، لذلك لا شك في الناس في الماضي كانت تعتقد أن هذه المناظر الطبيعية الخارقة والدخانية يمكن أن تكون بوابة الجحيم.

 

حتى في أوساكا يمكنكم أن تجدوا تمثيلاً للجنة والجحيم في معبد “سينكوجي”!

 

ينابيع الجحيم في بيبو “تم تسميتها بهذا الاسم بسبب لونها الأحمر

 ودرجة حرارتها التي تجتاز 78 درجة سيليزيوس “

 

مفهوم الموت في اليابان عبر التاريخ

كان لدى اليابانيين في الماضي مستوى عالٍ من الروحانية، فمثلاً كانوا يفترضون أن أسلافهم هم من تسببوا في الكوارث الطبيعية، وكانوا يتخيلوا أرواح أسلافهم وكأنها أرواح قوية ذات قوى خارقة تهيمن على أرواح الطبيعة.

 

ونجد أيضاً أن الموت كان بالفعل له أهمية كبيرة خلال فترة “جومون”، حيث تُظهر بعض المقابر القديمة دلائل أنهم كانوا يأدون طقوس معينة.

 

وخلال فترتي “يايوي” و “كوفون” كان هناك تطور واضح، فمثلاً في فترة كوفون بدأ سكان الأرخبيل الياباني في تغيير مفهوم الجنازة. ويمكننا معرفة ذلك من خلال ملاحظة تعديلهم لأشكال قبورهم. وفي الوقت الحاضر يمكنكم رؤية بعض الآثار في أماكن مختلفة مثل أوساكا.

 

آثار مقبرة “شيتشيكانياما” القديمة في مدينة “ساكاي”، أوساكا

 

الموت في الديانة البوذية: فترة هييآن ( 794-1185)

أصبح الديانة البوذية متجذرة بعمق في المجتمع الياباني خلال فترة هييآن، حيث قدمت أفكاراً ومعتقدات جديدة حول الموت وعن العالم ما بعد الموت.

 

منذ ذلك الحين أصبحت الطقوس الجنائزية للطبقات العليا معقدة، حيث كانوا يهدفون إلى الموت في أنقى طريقة ممكنة لأنهم اعتقدوا أن هذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة لتحقيق أبدية مشرفة في العالم الآخر.

 

ومن أحد هذه الطقوس هو حبس الشخص المحتضر في غرفة معزولة عن أي محفز للفكر والمشاعر، هذا يتضمن عدم وجود أي مشتتات أو رغبات قد تشوش أفكار الشخص وتعطيه أفكار غير نقية قبل موته. وكان الأثرياء يمارسون هذه العادة قبل الموت برفقة حارس بجانبهم يساعد الشخص المحتضر ويتلو له السوترا من أجل تحقيق تركيز مثالي.

 

وفي نهاية هذه الفترة، كان حرق جثمان المتوفى يحظى بأهمية كبيرة، فكما ذكرتُ سابقاً لقد كانت هذه الطقوس البوذية هامة حيث تجعل روح وجسد المتوفى أقرب إلى بوذا. وقد بدأت هذه الممارسة بين الطبقات العليا وانتشرت بالفعل في فترة “كاماكورا”.

 

 

الموت الشريف في اليابان: “سيبوكو” و”هاراكيري”

خلال فترة “سينغوكو” و “إيدو” حيث الساموراي كان له مكانة مهمة في اليابان ويخدم سيده بولاء وإخلاص. كان لدى الساموراي مبادئ وتعاليم مشتركة وواضحة أهمها الموت الشريف “سيبوكو” والمعروف أيضاً باسم “هاراكيري” وقد كان الساموراي يتبع هذه الطريقة عندما يفشل في أداء مهمة وتتبعها عواقب وخيمة أو عندما يخسر معركة ولم يبقى مجال للفوز، فيختار أن يقتل نفسه بيده حيث تعتبر هذه الطريقة شريفة.

 

وفيها يقوم الساموراي باستعمال السيف أو الخنجر بقعر بطنه من اليمين إلى اليسار، ولكن لم يتم تحديد أين بالضبط في البطن فقد كان يتم تنفيذ هذه الطريقة عشوائياً في منطقة البطن، حيث اعتقدوا أن أرواحهم كانت موجودة هناك، بهذه الطريقة يمكن للشخص أن يحرر نفسه ويموت بسلام وبشرف وبدون ندم.

 

قد تبدو طريقة سيبوكو طريقة مخيفة للموت، ولكنها في ذلك الوقت كانت أقرب طريقة للموت الشريف. وعلى الرغم من أن مفهوم هذه الطريقة بعيد كل البعد عن مجتمعنا، إلا أن الموت حسب معتقداتهم وبشكل صحيح كان مهماً جداً في اليابان، فقد أظهرت حقيقة ممارسة “سيبوكو” شجاعة هائلة وتحكماً في النفس تتطلب عزيمة كبيرة. 

 

فعندما يعلم الساموراي أنه على وشك الموت سواء في المعركة أو خارجها، فإن القدرة على أداء سيبوكو كانت تُعتبر “أفضل هدية” يفضلها لنفسه للموت بشرف.

 

 

المنظور الجديد للموت

إن معنى الموت يتطور كما يتطور المجتمع. في الوقت الحاضر يعد متوسط ​​العمر المتوقع في اليابان هو الأطول في العالم. وهذا هو السبب في أن الناس بعد التقاعد لديهم المزيد من الوقت للاستمتاع بسنواتهم المتبقية واستغلال الحياة بطريقة جيدة بممارسة ما يرغبون به.

 

هل يمكن الموت بسلام في اليابان هذه الأيام؟

كما تعلمنا قبل قليل كان لابد من اتباع قواعد صارمة قبل الموت في اليابان، ولم يستطيع جميع اليابانيين أن يحددوا كيف سيقضون الأيام الأخيرة من حياتهم خاصةً أصحاب الطبقة العالية والساموراي. هنا يمكننا أن نلاحظ بعض الاختلافات بين اليابان الحديثة والقديمة.

 

على سبيل المثال لا تزال فكرة الموت بسلام موجودة في الثقافة اليابانية، هذا هو السبب في أن الكثير من اليابانيين لا يريدون الموت محاطين بالآلات في المستشفى ويفضلون الموت بسلام في المنزل.

 

وهناك أيضاً جدل كبير حول التبرع بالأعضاء، حيث أن في معتقدات الديانة الشنتوية والبوذية في اليابان أنه يجب على الجميع أن يبقوا كاملين حتى لحظة حرقهم من أجل الحصول على الخلود الجيد في الحياة الثانية. ولكن قد تتفاقم هذه المشكلة عندما يقرر أفراد الأسرة مستقبل الشخص المحتضر، وذلك لأن أفراد الأسرة في اليابان يتمتعون بالسلطة المطلقة لاتخاذ قرار بشأن أفرادهم.

 

 

 الموت وطقوسه لم يعد مهمة مجتمعية

هناك تغيير مهم آخر يواجهه الموت في اليابان في الوقت الحاضر: وهي المهمة المجتمعية التي ينطوي عليها. فقبل الحرب العالمية الثانية كان المجتمع الذي يموت فيه الشخص يكون مسؤولاً عن رعاية جميع إجراءات الجنازة، كإبلاغ الجميع بالوفاة والقيام بالاستعدادات للجنازة.

 

ولكن مع انتقال اليابان إلى العالم الحديث، أصبحت الأجيال الشابة تفقد معرفتها بطقوس الجنازة والموت، وبدلاً من أن تكون مسؤولة عن هذه المهام، فإنها تفضل دفع راتب لشخص محترف يقدم خدمة الجنازة وإجراءاتها.

 

ولكن لا يجب أن ننسى أن طقوس الجنازة كانت في الماضي مهمة وحدث جيد من أجل تقوية الروابط بين أفراد المجتمع، وقد كانت أيضاً حدث جيد لإنشاء روابط جديدة بين أشخاص مختلفين، حيث كان عليهم العمل كمجتمع، وكان عليهم المرور بالحزن معاً ومواساة بعضهم البعض. 

 

 

الخلاصة:

يُعتقد في اليابان أن الموتى لا يتركوا الأحياء ويهتمون بهم حيث يزوروهم في أوقات ومناسبات كالأبون، أو على العكس قد يزعجوا الأحياء. فعلى الرغم من أننا نعيش في عالم محاط بتطورات جديدة في الحداثة، فلا يزال هناك عالم روحي به معتقدات متجذرة في التقاليد والمعتقدات في اليابان، وهذا يجذب الانتباه للتعمق أكثر في الأفكار اليابانية خاصةً في الماضي.

 

كما نرى تعرفنا في هذه المقالة على ثقافة الموت ومفهومه في اليابان منذ العصور القديمة حتى يومنا هذا، أتمنى أن المقالة كانت مفيدة وأشكركم على القراءة.

اترك رد

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط